قالوا كلهم: وكان ارتفاعها ثلاثين ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات؛ كل واحدة عشرة أذرع، فالسفلي للدواب والوحوش، والوسطى للناس، والعليا للطيور، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها.
قال الله تعالى:
{ قال رب انصرني بما كذبون * فأوحينا إليه أن أصنع الفلك بأعيننا ووحينا } (سورة المؤمنون:26ـ27)
أي: بأمرنا لك، وبمرأى منا لصنعتك لها، ومشاهدتنا لذلك، لنرشدك إلي الصواب في صنعتها.
{ فإذا جاء أمرنا وفار التنور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول، ولا تخاطبني في الذين ظلموا، إنهم مغرقون } (سورة المؤمنون:27)
فتقدم إليه بأمره العظيم العالي أنه إذا جاء أمره وحل بأسه، أن يحمل في هذه السفينة من كل زوجين اثنين من الحيوانات، وسائر ما فيه روح من المأكولات وغيرها لبقاء نسلها، وأن يحمل معه أهله، أي: أهل بيته، إلا من سبق عليه القول منه، أي: إلا من كان كافراً فإنه قد نفذت فيه الدعوة التي لا ترد، ووجب عليه حلول البأس الذي لا يرد، وأمره أنه لا يراجعه فيهم إذا حل بهم ما يعانيه من العذاب العظيم؛ الذي قد حتمه عليهم الفعال لما يريد؛ كما قدمنا بيانه قبل.
والمراد بالتنور عند الجمهور وجه الأرض، أي نبعت الأرض من سائر أرجائها حتى نبعت التنانير التي هي محال النار، وعن ابن عباس: التنور عين في الهند، وعن الشعبي: بالكوفة، وعن قتادة: بالجيزة.
وقال علي بن أبي طالب: المراد بالتنور فلق الصبح. وتنور الفجر؛ أي إشراقه وضياؤه. أي: عند ذلك فاحمل فيها من كل زوجين اثنين، وهذا قول غريب. وقوله تعالى:
{ حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن، وما آمن إلا قليل } (سورة هود:40)
هذا أمر بأنه عند حلول النقمة بهم أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين.
وفي كتاب أهل الكتاب: أنه أمر أن يحمل من كل ما يؤكل سبعة أزواج، وما لا يؤكل زوجين: ذكر وأنثى.
وهذا مغاير لمفهوم قوله تعالى في كتابنا الحق: (اثنين) إن جعلنا ذلك مفعولاً به، وأما إن جعلناه توكيداً لزوجين والمفعول به محذوف فلا ينافي. والله أعلم.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثني الليث، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن أبيه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\"لما حمل نوح في السفينة من كل زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف نطمئن؟ أو كيف تطمئن المواشي ومعنا الأسد؟ فسلط الله عليه الحمى، فكانت أول حمى نزلت في الأرض. ثم شكوا الفأرة، فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا؛ فأوحى الله إلي الأسد فعطس، فخرجت الهرة منه فتخبأت الفأرة منها\\"
وقوله:
{ وأهلك إلا من سبق عليه القول } (سورة هود:40)
أي: من استجيب فيهم الدعوة النافذة ممن كفر، فكان منهم ابنه \\"يام\\" الذي غرق كما سيأتي بيانه.
{ ومن آمن } (سورة هود:40)
أي: واحمل فيها من آمن بك من أمتك، قال الله تعالى:
{ وما آمن معه إلا قليل } (سورة هود:40)
هذا مع طول المدة والمقام بين أظهرهم، ودعوتهم الأكيدة ليلاً ونهاراً بضروب المقال، وفنون التلطفات، والتهديد والوعيد تارة، والترغيب والوعيد أخرى.
وقد اختلف العلماء في عدة من كان معه في السفينة.
فعن ابن عباس: كانوا ثمانين نفساً معهم نساؤهم. وعن كعب الأحبار: كانوا اثنين وسبعين نفساً. وقيل: كانوا عشرة.
وقيل: إنما كانوا نوحاً وبينه الثلاثة وكنائنه الأربع بامرأة \\"يام\\" الذي انخزل وانعزل وسلك ع طريق النجاة فما عدل إذ عدل.
وهذا القول فيه مخالفة لظاهر الآية. بل هي نص في أنه قد ركب معه من غير أهله طائفة ممن آمن به، كما قال:
{ ونجني ومن معي من المؤمنين } (سورة الشعراء:118)
وقيل: كانوا سبعة.
وأما امرأة نوح وهي أم أولاده كلهم: وهي حام، وسام، ويافث، ويام ويسميه أهل الكتاب كنعان وهو الذي قد غرق، و\\"عابر\\" فقد ماتت قبل الطوفان، وقيل إنها غرقت مع من غرق، وكانت ممن سبق عليه القول لكفرها.
وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة، فيحتمل أنها كفرت بعد ذلك، أو أنها أنظرت إلي يوم القيامة، والظاهر الأول؛ لقوله:
{ لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } (سورة نوح:26)
قال الله تعالى:
{ فإذا استويت أنت ومن معك على الفلك فقل الحمد لله الذي نجانا من القوم الظالمين* وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين } (سورة المؤمنون:28ـ29)
أمره أن يحمد ربه على ما سخر له من هذه السفينة، فنجاه بها وفتح بينه وبين قومه، وأقر عينه، ممن خالفه وكذبه: كما قال تعالى:
{ والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون* لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين * وإنا ربنا لمنقلبون } (سورة الزخرف: 12ـ14)
وهكذا يؤمر بالدعاء في ابتداء الأمور؛ أن يكون على الخير والبركة، وأن يكون عاقبتها محمودة.
كما قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم حين هاجر:
{ وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطاناً نصيراً } (سورة الإسراء:80)
وقد امتثل نوح عليه السلام هذه الوصية وقال:
{ اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم } (سورة هود:41)
أي: على اسم الله ابتداء سيرها وانتهاؤها (إن ربي لغفور رحيم) أي: وذو عقاب أليم، مع كونه غفوراً رحيماً، ولا يرد بأسه عن القوم المجرمين، كما أحل بأهل الأرض الذين كفروا به وعبدوا غيره.
وقال الله تعالى:
{ وهي تجري بهم في موج كالجبال } (سورة هود:42)
وذلك أن الله تعالى أرسل من السماء مطراً لم تعهده الأرض قبلها ولا تمطره بعدها، كان كأفواه القرب وأمر الأرض فنبعت من جميع فجاجها وسائر أرجائها.
كما قال تعالى:
{ فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنا أبواب السماء بماء منهمر وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر } (سورة القمر:10ـ13)
والدسر: المسامير
{ تجري بأعيننا } (سورة القمر:14)
أي: بحفظنا وكلاءتنا وحراستنا ومشاهدتنا لها
{ جزاء لمن كان كفر } (سورة القمر:14)
وقد ذكر ابن جرير وغيره أن الطوفان كان في ثالث عشر شهر آب في حمارة القيظ.
وقال تعالى:
{ إنا لما طغى الماء حملناكم في الجارية } (سورة الحاقة:11)
أي: السفينة
{ لنجعلها لكم تذكرة وتعيها أذن واعية } (سورة الحاقة:12)
قال الإمام مالك عن زيد بن أسلم: كان أهل ذلك الزمان قد ملأوا السهل والجبل، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: لم تكن بقعة في الأرض إلا ولها مالك وحائز. رواهما ابن أبي حاتم.
{ ونادى نوح ابنه وكان في معزل يا بين اركب معنا ولا تكن مع الكافرين* قال سآوى إلي جبل يعصمني من الماء، قال لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، وحال بينهما الموج فكان من المغرقين } (سورة هود:42ـ43)
وهذا الابن هو \\"يام\\" أخو سام وحام ويافث؛ وقيل اسمه كنعان؛ وكان كافراً، عملاً غير صالح، فخالف أباه في دينه؛ فهلك مع من هلك. هذا وقد نجا مع أبيه الأجانب في النسب؛ لما كانوا موافقين في الدين والمذهب.
{ وقيل يا أرض أبلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضى الأمر واستوت على الجودى، وقيل بعداً للقوم الظالمين } (سورة هود:44)
أي: لما فرغ من أهل الأرض؛ ولم يبق منها أحد ممن عبد غير الله عز وجل؛ أمر الله الأرض أن تبتلع ماءها، وأمر السماء أن تقلع أي: تمسك عن المطر، (وغيض الماء) أي: نقص عما كان (وقضى الأمر) أي: وقع بهم الذي كان قد سبق في عمله وقدره؛ من إحلاله بهم ما حل بهم.
(وقيل بعداً للقوم الظالمين) أي: نودي عليهم بلسان القدرة: بعداً لهم من الرحمة والمغفرة.
كما قال تعالى:
{ فكذبوه فأنجيناه والذين معه في الفلك وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا إنهم كانوا قوماً عمين } (سورة الأعراف: 64)
وقال تعالى:
{ فكذبوه فنجيناه ومن معه في الفلك وجعلناهم خلائف وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، فانظر كيف كان عاقبة المنذرين } (سورة يونس:73)
وقال تعالى:
{ ونصرناه من القوم الذين كذبوا بآياتنا، إنهم كانوا قوم سوء فأغرقناهم أجمعين } (سورة الأنبياء:77)
وقال تعالى:
{ فأنجيناه ومن معه في الفلك المشحون * ثم أغرقنا بعد الباقين * إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين * وإن ربك لهو العزيز الرحيم } (سورة الشعراء:119ـ122)
وقال تعالى:
{ فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما فأخذهم الطوفان وهم ظالمون * فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية للعالمين } (سورة العنكبوت:14ـ15)
وقال تعالى:
{ ثم أغرقنا الآخرين } (سورة الشعراء:66)
وقال تعالى:
{ ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر } (سورة القمر:15ـ17)
وقال تعالى:
{ مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا ناراً فلم يجدوا لهم من دون الله أنصاراً * وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً * إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجراً كفاراً } (سورة نوح:25ـ27)
وقد استجاب الله تعالى ـ وله الحمد والمنة ـ فلم يبق منهم عين تطرف.
وقد رأى الإمامان أبو جعفر بن جرير، وأبو محمد بن أبي حاتم في تفسيرهما؛ من طريق يعقوب بن محمد الزهري؛ عن فائد مولي عبيد الله بن أبي رافع؛ أن إبراهيم ابن عبد الرحمن بن أبي ربيعة أخبره أن عائشة أم المؤمنين، أخبرته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: \\"فلو رحم الله من قوم نوح أحد لرحم أم الصبي\\"
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: \\"مكث نوح عليه السلام في قومه ألف سنة ـ يعني إلا خمسين عاماً ـ وغرس مائة سنة الشجر، فعظمت وذهبت كل مذهب، ثم قطعها ثم جعلها سفينة؛ ويمرون عليه ويسخرون منه؛ ويقولون: تعمل سفينة في البر كيف تجري؟ قال: سوف تعلمون.
فلما فرغ ونبع الماء وصار في السكك خشيت أم الصبي عليه وكانت تحبه حباً شديداً فخرجت به إلي الجبل حتى بلغت ثلثه؛ فلما بلغها الماء خرجت به حتى استوت على الجبل فلما بلغ الماء رقبتها رفعت يديها فغرقت؛ فلو رحم الله منهم أحداً لرحم أم الصبي\\"
وهذا حديث غريب. وقد روي عن كعب الأحبار ومجاهد وغير واحد شبيه لهذه القصة وأحرى بهذا الحديث أن يكون موثوقاً متلقي عن مثل كعب الأحبار، والله أعلم.
والمقصود أن الله لم يبق من الكافرين دياراً.
فكيف يزعم بعض المفسرين أن عوج بن عنق ـ ويقال ابن عناق ـ كان موجوداً من قبل نوح إلي زمان موسى؟! ويقولون: كان كافراً متمرداً جباراً عنيداً. ويقولون: كان لغير رشده، بل ولدته أمه بنت آدم من زنا، وأنه كان يأخذ من طوله السمك من قرار البحار ويشوبه في عين الشمس، وأنه كان يقول لنوح وهو في السفينة: ما هذه القصعية التي لك؟ ويستهزئ به. ويذكرون أنه كان طوله ثلاثة آلاف ذراع وثلاثمائة وثلاثة وثلاثين ذراعاً وثلثاً، إلي غير ذلك من الهذيانات التي لولا أنها مسطرة في كثير من الكتب والتفاسير وغيرها من التواريخ وأيام الناس لما تعرضنا لحكايتها؛ لسقاطتها وركاكتها، ثم إنها مخالفة للمعقول والمنقول.
أما المعقول: فكيف يسوغ فيه أن يهلك الله ولد نوح لكفره، وأبوه نبي الأمة وزعيم أهل الإيمان، ولا يهلك عوج بن عنق، ويقال عناق، وهو أظلم وأطغى على ما ذكروا؟
وكيف لا يرحم الله منهم أحداً ولا أم الصبي، وترك هذا الدعي الجبار العنيد الفاجر الشديد الكافر، الشيطان المريد على ما ذكروا؟.
وأما المنقول فقد قال الله تعالى:
{ ثم أغرقنا الآخرين } (سورة الشعراء:66)
وقال:
{ رب لا تذر على الأرض من الكافرين دياراً } (سورة نوح:26)
ثم هذا الطول الذي ذكروه مخالف لما في الصحيحين
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: \\"إن الله خلق آدم وطوله ستون ذراعاً، ثم لم يزل الخلق ينقص حتى الآن\\"
فهذا نص الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى
{ إن هو إلا وحي يوحي } (سورة النجم:4)
إنه لم يزل الخلق ينقص حتى الآن، أي لم يزل الناس في نقصان في طولهم من آدم إلي يوم إخباره بذلك وهلم جرا إلي يوم القيامة، وهذا يقتضي أنه لم يوجد من ذرية آدم من كان أطول منه.
فكيف يترك هذا ويذهل عنه ويصار إلي أقوال الكذبة الكفرة من أهل الكتاب، الذين بدلوا كتب الله المنزلة وحرفوها وأولوها ووضعوها على غير مواضعها؟ فما ظنك بما هم يستقلون بنقله أو يؤتمنون عليه، وهم الخونة والكذبة ـ عليهم لعائن الله المتتابعة إلي يوم القيامة.
وما أظن أن هذا الخبر عن عوج بن عناق إلا اختلافاً من بعض زنادقتهم وفجارهم الذين كانوا أعداء الأنبياء. والله أعلم.
ثم ذكر الله تعالى مناشدة نوح ربه في ولده، وسؤاله عن غرقه على وجه الاستعلام والاستكشاف.